وهب الأعضاء، فضيلة إنسانية لهدف نبيل: إنقاذ إنسان بحاجة إلى عملية لزرع عضو تالف، كي يبقى على قيد الحياة... هنا، الميت بإرادته، يهب الحياة لمن هو بحاجة إليها، أما ما تفتقت عنه عبقرية الربح في الأنظمة الرأسمالية، فهي جعل هذا الأمر، أو ما يشبهه، تجارة رائجة، تدر ملايين الدولارات على المساهمين في ترويجها، بطرق سرية غير مشروعة... هذا التحقيق الذي نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية في 22 تموز 2012 يكشف عن تجارة الجثث التي تنتهك القيم وسلامة الأنسجة المستخرجة من أموات... انه عالم لا يتوقف عن جعل كل شيء سلعة.
يشهد قطاع الأنسجة البشريّة وتحويلها تقدّما ملحوظا، تواجهه ممارسات عالميّة غير شرعيّة تودي في بعض الحالات بحياة الكثيرين. في المقابل، يطرح القارئ العربي تساؤلات عدّة عن ماهيّة الأنسجة البشريّة، وطبيعة الشركات المصنّعة والمصدّرة لتلك الأنسجة ومدى الالتزام بالقوانين الشرعيّة.
يعتبر النسيج الحيوي مجموعة متماسكة من الخلايا الحيويّة التي تقوم بوظيفة معيّنة في الجسم. ووفق «منظمة الصحة العالميّة»، هناك اختلاف بين التبرّع بعضو حيويّ أو نسيج حيوي إذ يمكن أخذ الأعضاء الكاملة من المتوفين دماغيّا فقط ويجب نقلها بسرعة من المتبرّع إلى المريض، بينما يمكن أخذ الأنسجة البشريّة مثل العظم، والجلد، وصمّامات القلب من متبرّعين أحياء ومن متبرّعين متوفّين في المستشفيات والمشارح.
قام «الاتّحاد العالمي للصحافيين المحققين» الذي يشكّل شبكة مستقلّة من الصحافيين المحققين المعالجين لقضايا دوليّة، بتحقيق خلال ثمانية أشهر في أحد عشر بلدا حول تجارة الأنسجة البشريّة في العالم والانتهاكات التي تسجلها.
في الرابع والعشرين من شباط الماضي، وجدت السلطات الأوكرانيّة مجموعة من العظام والأنسجة البشريّة خلف باص صغير. وتفاجأ المحقّقون بوجود مغلّفات تحتوي على نقود وتقارير عن تشريح جثث إلى جانب تلك العظام والأنسجة. ولم تكن تلك الموجودات عائدة إلى ضحايا سفّاح متسلّل بل إلى أحد مظاهر تجارة الأنسجة البشريّة التي يتمّ زرعها عند مرضى من مختلف أنحاء العالم. وكان من المفترض أن يتمّ إرسال تلك العيّنات إلى مصنع في ألمانيا تابع إلى المجموعة الأميركيّة «RTI Biologics».
رفضت «RTI»، التي تستخدم الجثث الميتة كمادة أوليّة لمنتجات عدّة، الإجابة عن تساؤلات المحققين. وأكّدت، في بياناتها، أنها تحترم وهب الأنسجة البشريّة وتعالجها بطريقة جيّدة لمساعدة المرضى.
تجارة وشطارة
تندرج تلك المجموعة ضمن قطاع قائم على الاستفادة من تحويل الأعضاء والأنسجة البشريّة إلى منتجات طبيّة مثل تعويضات الأسنان الثابتة، أنابيب مجرى البول، وعلاجات التجاعيد وغيرها. ويسجّل هذا القطاع الصناعي نموّا مزدهرا رغم القلق الذي تثيره سبل الحصول على الأنسجة الحيّة، أو دقّة المعلومات التي يحصل عليها أهل الميت أو الأشخاص الذين يزرعون عضواً حيّويا. تشكّل «الولايات المتحدّة الأميركيّة» السوق الأكبر والمورد الأضخم للأنسجة البشريّة، إذ يقدّر بيع نحو مليوني منتج مشتقّ من الأنسجة البشريّة سنويّا مع تضاعف الأرقام خلال السنوات العشر الأخيرة.
لم يجذب قطاع تجارة الأنسجة البشريّة، على الرغم من نموّه السريع، انتباه المجتمعات بسبب النقص في المراقبة من قبل السلطات، والأثر الإيجابي الذي تولّده فكرة السماح للأموات بمساعدة الأحياء على البقاء على قيد الحياة. ووفق نتائج المسح، تواجه النيّات الحسنة لصناعة الأنسجة البشريّة جشعا في جني الأموال. ولاحظ الاتّحاد، استنادا إلى مئات المقابلات والوثائق، أن معايير الحذر غير كافية لضمان قانونيّة وشرعيّة عمليّة جمع الأنسجة البشريّة. ويؤدّي النقص في القوانين، وفق الأطباء، إلى زيادة في احتمال إصابة المستفيدين بفيروس الإيدز أو التهاب الكبد أو غيرها من الأمراض المعدية من دون أن تبلور السلطات المعنيّة الإجراءات الضروريّة للحدّ من هذه المخاطر.
وعلى عكس عمليّة جمع الأعضاء والدم التي تخضع إلى معايير دقيقة وصارمة، تنضوي عمليّة جمع الأنسجة البشريّة على مخاطر التقاط العدوى. فوفق «مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها» الأميركي، أدّت عمليات الزرع إلى الإصابة بعدوى بكتيرية مميتة في بعض الحالات، وساهمت في انتشار مرض «Kreutzfeld-jacob» الذي يصيب الجهاز العصبي، ومرض السيدا، والتهاب الكبد الفيروسي من النوع «ج»، وداء الكلب.
«ميتة» في أجسام حية
ووفق تحليل الاتّحاد للمعطيات، وثّقت «وكالة الغذاء والدواء الأميركيّة» منذ العام 2002 ظهور 1352 إصابة بمرض معد ناجمة عن زرع أنسجة بشريّة. أودت تلك الإصابات بحياة أربعين شخصا. تعتمد الوكالة على معايير «الجمعيّة الأميركيّة لبنوك الأنسجة» « American association of tissue banks» التي منحت اعتمادها لثلث بنوك الأنسجة الأميركيّة فقط. وتعتبر الجمعيّة أن خطر انتقال العدوى إلى المرضى ضئيل، إذ تخضع الأنسجة والأعضاء للتعقيم والإشعاع.
يقول المسؤول عن قسم الدم والمنتجات البيولوجيّة في «مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها» في «الولايات المتحدة الأميركيّة» مات كويهنرت «ليس هناك نظام محلّي أو عالمي يضمن متابعة عمليّة انتقال الأنسجة من الواهب إلى المريض وليس هناك نظام مراقبة، ولا تتوافر معلومات عن حالات العدوى التي من الممكن أن تكون قد ظهرت عند بعض الأشخاص». ويسرد المحقّقون أن الأطباء لا يخبرون مرضاهم بأن الأنسجة المزروعة مستخرجة من جثث ميتة، لذا يصبح من الصعب ربط عدوى معيّنة بعمليّة زرع عضو حيوي.
على خلاف المعايير المعقّدة التي تضبط عمليّة الحصول على عضو سليم لعمليات زرع القلب أو الرئة، لا تملك السلطات في «الولايات المتحدة الأميركيّة» وفي البلدان الأخرى معلومات واضحة في شأن تتبّع مصدر الأنسجة البشريّة المدوّرة ووجهتها. وتظهر القوانين، التي تهدف إلى حماية عائلات الموتى، ثغرات تمنح الشركات التجاريّة الخيار في تحديد المعلومات التي تفصح عنها أو لا.
أظهرت دراسة موّلتها الحكومة الأميركيّة، ونشرت في آذار، أن عائلات الأشخاص المانحين لا يدركون في معظم الأحيان على ماذا يوافقون. ولا تقبل نسبة 73 في المئة من الأشخاص الذين شاركوا في الدراسة بيع وشراء الأنسجة البشريّة لأي سبب كان.
على سبيل المثال، واجه أهل الشاب الأوكراني سيرجي مليش (19 عاما)، الذي انتحر في العام 2008، حقيقة حزينة قبل الجنازة، إذ أدرك الأهل أنه تمّ بيع وإعادة تدوير بعض أعضاء ابنهم «يجنون الأموال على حساب حزننا» يقول والد مليش.
جثث للبيع: قطع «أكسسوار»
يلاحظ كويهنرت تعذّر الأطباء في مساعدة «المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها» على سحب بعض المنتجات أو الأنسجة البشريّة الملوّثة من الأسواق بسبب غياب المعلومات حول مصادر الأنسجة وتتبّعها المنهجي وما آلت إليه. ويشير كويهنرت إلى أنه « يوجد باركود لعلب الحبوب التي يتناولها الفرد في الصباح، ولا يوجد باركود للأنسجة الحيّة، ولا يعرف المريض الذي يخضع لعمليّة زرع لنسيج حيوي مصدر ذلك النسيج».
تكمن إحدى نقاط ضعف نظام مراقبة الأنسجة في العمليات السريّة والمعقّدة لتبادل المواد عبر الحدود. تصدّر سلوفاكيا إلى ألمانيا أنسجة مستخرجة من جثث بشريّة، وتصدّر ألمانيا أنسجة إلى كوريا الجنوبيّة و«الولايات المتحدة الأميركيّة» التي تبيع المنتجات إلى أكثر من ثلاثين بلدا. وهناك موزّعون لمنتجات مصنوعة من أعضاء بشريّة في الاتحاد الأوروبي، والصين، وكندا، وتايلاند، والهند، وأفريقيا الجنوبيّة، والبرازيل، وأوستراليا، ونيوزيلندا، يلحق بعضهم بشركات طبيّة دوليّة ضخمة. ويشير البروفسور في الفيزيولوجيا العصبيّة مارتين زيزي في «جامعة بروكسل الحرّة» الى وجود مراقبة أكبر على الخضار والفاكهة، منها على الأنسجة والأعضاء البشريّة.
يشكّل الاتجار بالأنسجة البشريّة قطاعا مربحا جدا. إذ توفّر جثة واحدة سليمة، وفق الخبراء، نحو ثمانين ألفاً إلى مئتي ألف دولار أميركي للمستفيدين أو للتّجار. وفي «الولايات المتحدّة الأميركيّة»، يجني جامع الجثث نحو عشرة آلاف دولار أميركي لكلّ جثة يمكنه الحصول عليها من خلال العلاقات التي يقيمها مع المستشفيات والمشارح. ويعمل بعض الجرّاحين كمستشارين للشركات المصنّعة. وفي العام 2011، بلغت أرباح «RTI» من دون حسم الضرائب نحو 11,6 مليون دولار. يخبر فيليب غويه، الذي كان يدير عمليّات جمع لأنسجة بشريّة في بعض الولايات الأميركيّة قبل محاكمته في العام 2009، انه كان يرى في الجثث ملصقات لدولارات على جميع أجزاء الجسد.
تقوم الشركات بعمليّة تحويل الجلد والعظام إلى منتجات تستعملها مصانع مستحضرات التجميل وطبّ الأسنان لاستخدامات عدّة مثل تكبير الشفاه أو حجم القضيب أو إزالة التجاعيد. قبل الدفن، يتمّ استخراج العظام من الجثّة وتبديلها بأنابيب مصنوعة من مادة «البولي فينيل الكلوريد». ويعمل المصنّعون على تحويل العظام إلى براغ ومسامير طبيّة أو خلطها مع مواد كيميائيّة لإنتاج مواد لاصقة ذات جودة عالية للعمليّات الجراحيّة.
وبسبب وجود قوانين تمنع بيع الأنسجة البشريّة، أنشأت الشركات الأميركيّة الأولى مؤسسّات تابعة لها، طابعها غير ربحي، لجمع الأنسجة الحيّة، إذ يمنح أهل الضحايا الأنسجة مجانا.
تختلف معايير استخدام المنتجات المستخرجة من الأنسجة البشريّة بين البلدان، وتلتزم تلك المعايير في أغلب الأحيان بالقوانين العالميّة. تقوم «وكالة الغذاء والدواء الأميركيّة» بدور الشرطيّ في العالم لأنّ «الولايات المتحدة الأميركيّة» وحدها تلبّي ثلثي الحاجات للمنتجات المستخرجة من الأنسجة البشريّة. وفيما تنصّ القوانين الأميركيّة على ضرورة حصول الشركات الأجنبيّة التي ترغب بتصدير منتجاتها إلى «الولايات المتحدة الأميركيّة» على اعتماد الوكالة وإخضاع المنتجات إلى التفتيش، لا تلتزم سوى نسبة سبعة في المئة فقط من الشركات المسجلة في الوكالة بإجراءات المراقبة. ولم تقفل الوكالة أياً من تلك الشركات.
ملاك مكي