يشغلُ الدمع مقلتيها، تعتصرُ الحيرة قلبها، بصعوبة تلتفت إلى الوراء، مودّعة أفراد أسرتها. تخرج سلام من منزل أبيها، محمولة على الأكتاف، لا لتنتقل إلى كنفها الزوجي كسائر بنات جيلها، على وقع قرع الطبول، وزغردة النسوة ورشّ الأرز، إنّما إلى أقرب مستشفى لغسل الكِلى. بدأ حلم الزفاف يتهاوى في بال إبنة الخامسة والعشرين، ترافُقاً مع تساقط أسنانها تدريجاً، وتدهوُر حالتها الصحّية، من دون أن تحظى بمن يهبها كبداً وكلية.
إستفاقت سلام والفجر لا يزال جنيناً، غالباً ما كانت تؤرقها فكرة ترك منزل أبيها في بلدة "الحويش" قضاء عكّار، فتسأل في قرارة نفسها: "ماذا لو كانت هذه المرّة الاخيرة التي أتوجّه فيها إلى غسل الكِلى؟". على رغم أنّ الصورة عينها تتكرّر صباح كلّ اثنين، أربعاء، وجمعة، منذ أن كانت في السادسة عشر، إلّا أنّ سلام لم تتآلف مع المشهد، فتخبر: "ككرة ثلج تكبر مخاوفي، تتسارع نبضات قلبي، يهبط ضغطي، عتمة دامسة تظلّل نظراتي، وكأنّني أعيش فيلماً مرعباً".
"صحيح أنّ إسمي سلام، لكنّ قلبي لم يذُق لا طعم السلام ولا الهناء، أذوق الموت يوميّا وأعود"، بحسرة تتحدّث إلى "الجمهورية"، محاولة التغلّب على آلامها: "كنت أمارس حياتي اليومية على نحو طبيعي، أذهب إلى المدرسة، أخرج للتسوّق، أمارس الرياضة، إلى أن خضعتُ وأنا في السادسة عشرة من عمري لعملية تفتيت للبحص، ومع تكرّر تكوّن هذه المادة، ثابرت على غسل الكِلى 3 مرّات أسبوعيّا".
من أعماق ذاتها تتنهّد سلام، وتتابع موضحةً: "في مرحلة لاحقة خضعت لعدد من الفحوص الطبّية، تحسّباً لربّما أنعم عليّ الله بواهب يمكّنني من زرع كلية. ولكن للأسف، في ضوء الفحوص الطبّية، تبيّن أنّني في حاجة أيضاً إلى زرع كبد لأنّه يفرز البحص، بالتالي يعطّل عمل الكِلى، ما يعني أنني في حاجة إلى زرع كبد وكِلية في آن معا".
أحلم... تلمّس أسناني
"أتوق لتحسّس أسناني في فمي"، عبارة تختصر أحلام سلام التي تمضي كامل وقتها في السرير، في انتظار الفرج. فقد قلبت حالتها الصحّية أحلامها رأساً على عقب: "ما عدت أحلم أن أكون طبيبة أطفال ولا مدرّسة، أتوق فقط إلى استعادة وزني بعدما بات لا يتجاوز الثلاثين كيلو غراماً، وكذلك تلمّس أسناني بعد تساقطها لضعف مناعتي".
أكثر ما يحزّ في قلب سلام أنّها تعجز عن الدخول إلى المرحاض بمفردها، فتقول: "ليس من السهل الإستعانة بوالدتي كلّ مرّة أرغب في قضاء حاجتي، بالإضافةً إلى الألم الذي يرافقني، تعتريني موجة من الخجل".
وما يضاعف معاناة سلام، ويزيد من نكء جراحها، أنّ حال صحّة أخيها أحمد (16 عاما)، ليست أفضل من حالها، فاسمه أيضاً على لائحة الانتظار.
منذ الرابعة من عمره...
تسأله عن صحّته، فيجيبك: "الحمدلله، نشكر الله"، وسرعان ما يغرق أحمد في صمت طويل محاولاً حبس دموعه. ويتابع بعد استرجاعه قواه: "في الفراش عطول عطول"، لم يتسنّ لي الاحتفاظ بأيّ ذكريات سعيدة، أحارب البحص في كليتي منذ أن كنت في الرابعة من عمري.
ما من لحظات هنيئة يمكن استرجاعها في وقت ترعرعت على وقع آلات غسل الكِلى، متنقّلاً في أروقة المستشفيات. لا أذكر أنّني ركضت في الحقول، أو حتى لمست سنابل القمح أو راقبت كيف تحلّق الطيور".
ما يحزّ في قلب أحمد هو تلاشي أمل الأطبّاء في بقائه حيّاً طويلاً، فيقول: "حبّذا لو بإمكاني إعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو حتى إيقافها. أشعر وكأنني في سباق مع الزمن، خصوصا بعدما أظهرت الفحوص الطبّية أنه لا يكفي زرع كِلية، وأنّني أحتاج أيضاً إلى زرع كبد، فهذا الأخير يفرز بحصاً على نحو مستمرّ".
في وقت يستمدّ أحمد عزيمته، وتمسّكه في الحياة من شقيقته سلام، "نترافق معاً إلى غسل الكِلى، معاناتنا واحدة، كلّ منّا في حاجة إلى وحدتَي دم شهريّا"، كم من الأسئلة تقضّ مضجعه. "أخشى أن يأتي يوم ولا نجد من يتبرّع لنا بوحدات الدم، أخاف أن أخسر الحياة، وأمور كثيرة حُرمت منها".
يتأمّل أحمد في فراشه بمرارة وغصّة كيف تتكسّر عظامه بسبب سوء حاله الصحّية. بعدما بات يتيم الأب منذ عامين، لا يجد هذا الشاب تعزيته إلّا في عيون والدته التي دأبت على خدمته وشقيقته من دون تأفّف ولا تململ.
معاناة سلام وأحمد، ليست سوى غيض من فيض عدد كبير من اللبنانيين على لائحة انتظار من يتبرّع لهم بأعضائه.
بعد 3 سنوات من الانتظار
"نبضات قلبي هي الموسيقى الأحبّ على قلبي". بهذه العبارة يختصر خالد صفحة جديدة فتحها في عمره، بعد سنوات طويلة من المعاناة. وبنبرة تنضح أملاً يخبر: "ولِدتُ أشكو من كسل في عضلة القلب، تأخّر الاطبّاء في تشخيص مرضي، واحتاروا في ما بينهم".
قطع خالد الأمل في إمكان البقاء على قيد الحياة، وعلى مضض دوّنَ اسمه على لائحة انتظار من يهبه قلباً جديداً. إنتظر سنة، سنتين، ثلاث سنوات من دون أيّ خبر مطمئن يُثلج صدره، إلى أن تلقّى اتّصالاً ذات ليلة، بدّلَ مصيره: "بعد مرور 3 سنوات "وشويّ"، تلقّيت اتّصالاً من طبيبي الخاص يبلغني بضرورة الحضور إلى المستشفى، صباح اليوم التالي، لقد توفّر واهب". يعترف خالد أنّ مفهوم الحياة تغيّر في نظره، "أشعر وكأنّني ولدت من جديد، على الدوام أذكر الواهب في صلاتي من دون معرفتي الشخصية به".
دهمه الموت
على غفلة، خسر أرتين آخر حبّة في العنقود، بعد تعرّض إبنه (18 عاما) لحادث وهو على درّاجته الناريّة. من قلب مقهور، يخبر الوالد: "كصاعقة تبلّغت الخبر، قطعَت الفاجعة أنفاسي، قصمت ظهري، خسارة لا تُعوَّض بثمن. إلّا أنّ الله مدّني بالصبر لأنفّذ إرادة إبني الذي سبق أن ملأ استمارةً لوهب الأعضاء، وتركها في محفظته". ويتابع بحرارة: "لا أنكر أنّني تردّدت في بداية الأمر، إلّا أنّ الدين يشجّع على وهب الأعضاء، لذا أردت أن يكون موت إبني حياة لطالبيها".
متى يمكن الوهب؟
يبقى السؤال، في أيّ حال يمكن الوهب؟ يجيب الدكتور عبدالله رحباني الأختصاصي في أمراض أعصاب الرأس: "هناك واهب حيّ يمكنه أن يَهب كِلية واحدة، نصف كبد، نصف بنكرياس أو رئة. أمّا الواهب المتوفّى، أي من تعرّض تحديداً لموت دماغيّ، فيتمّ الحفاظ على دورته الدموية بواسطة الآلات الطبّية. ويمكن للمتوفّى أن يهب قلبه، كِليتين، كبد، قرنيّتين، أوعية دموية، عظماً...".
ويوضح رحباني مفهوم الموت الدماغي: "هو الفقدان الكامل لكلّ وظائف الجهاز العصبي المركزي، فيُعتبر الإنسان ميتاً لدى توافر مجموعة شروط، أبرزها غياب المنعكسات الرأسية، والتنفّس، والحركة. واستنادا إلى المرسوم الرقم 1442 الصادر عام 1984، يتمّ تشخيص الحالة من طبيب أختصاصي بأمراض الجهاز العصبي، وطبيب إنعاش، وطبيب شرعي.
ويشدّد رحباني على أنّ عملية وهب الأعضاء، تتمّ بدقّة تامّة: "نتعامل مع الجثة باحترام، من دون إلحاق أيّ تشويه أو ضرر بها، فلا تظهر أيّ قطبة أو جرح مفتوح".
من صفر إلى 10
من جهتها، تُثني المنسّقة العامّة في لجنة وهب وزرع الأعضاء والأنسجة فريدة يونان على تقدّم ثقافة الوهب في صفوف اللبنانيين، وإن على نحو خجول، فتقول: "في نظرة بانورامية على نسبة الواهبين سنويّاً، نلاحظ تحسّناً بطيئاً في السنوات الأخيرة.
إنتهى عام 2009 من دون تسجيل أيّ عملية وهب من ميت إلى حيّ. عام 2010 جرت عمليتا وهب للأعضاء. أمّا عام 2011، فقد سُجّلت 10 عمليّات وهب للأعضاء و18 وهباً للقرنية. وفي عام 2012، 10 واهبين للأعضاء والأنسجة و28 واهباً للقرنية. لم نتراجع وفي الوقت عينه نسعى إلى الحفاظ على التوازن".
لا تنكر يونان أنّ التحسّن بطيء، ومردُّه عدم تعاون المستشفيات كافّةً وتردّد الاطبّاء الاختصاصيّين في تسجيل مرضاهم على لائحة الإنتظار، وكذلك التعاون المحدود من قِبل الإعلام في نشر التوعية حول أهمّية وهب الأعضاء، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ 13 مستشفى تتعاون فعليّاً مع اللجنة، ونأمل أن تنضمّ كلّ المراكز الاستشفائية الى هذا البرنامج وفقاً لمعايير تصنيف المستشفيات التي ستُعتمد من قِبل وزارة الصحة العامّة".
6 آلاف... غير كافية
أمّا بالنسبة إلى عدد المسجّلين على لائحة الإنتظار، فتقول يونان: "الرقم المسجّل عندنا لا يعكس الواقع المرير، خصوصاً أنّ الاطبّاء لا يوجّهون مرضاهم على نحوٍ جيّد، على إمتداد الاراضي اللبنانية، هناك 184 مريضاً ينتظرون كِلية، 14 في حاجة إلى كبد و16 إلى قلب". وتضيف: "ما يؤكّد أنّ الحاجة أوسع ممّا هو ظاهر للعيان، هو أنّ عدد الذين يغسلون الكلى يبلغ نحو 2500 مريض، وأستبعدُ أن يكون عدد المحتاجين إلى كِلية بالمئات".
في هذا الإطار، تؤكّد يونان: "لا أولوية لأحد، ولا مجال للمحسوبيّات في عملية توزيع الأعضاء على المرضى، إنّما توزّع وفقاً للمعايير الطبّية وتطابق الأنسجة، مع الإشارة إلى ضرورة أن يكون ملفّ المريض مسجّلاً على لائحة الإنتظار الوطنية الرسمية والوحيدة مع اللجنة الوطنية".
من جهته، يتوقّف نائب رئيس اللجنة الدكتور أنطوان إسطفان عند عدد المسجّلين لوهب أعضائهم: "6 آلاف مسجّل غير كافٍ، لا بدّ من توافر عدد أكبر مقارنةً مع الحاجة، خصوصاً أنّه لا يمكن الإعتماد على الواهبين الأحياء فقط ".
ويضيف: "استناداً إلى التقرير السنوي الاخير الصادر عن"IRODAT" لعام 2011 (International Registry in Organ Donation and Transplantation)، فقد احتلّ لبنان درجة متدنّية، ولا يزال يُعتبر من الدول المتخلفة على مستوى وهب الأعضاء بين متوفٍّ وحَي"، مشيراً في الوقت عينه، إلى انتهاء عقد الشراكة بين اللجنة والحكومة الإسبانية، وبالتالي "لا دعم لنا سوى من وزارة الصحّة العامة، ممّا يصعّب مهمّات اللجنة". مع الإشارة إلى أنّ الخبراء من إسبانيا سيتابعون مراقبة برنامج الوهب في لبنان من خلال اللجنة الوطنية.
في الختام، لفت إسطفان إلى أن اللجنة تستقبل كل من يرغب في تعبئة إستمارة وهب الأعضاء.