يتوق الواهبون إلى التعرّف إلى أحد الموهوبين، لكنهم يخافون (أرشيف(
نظّم «برنامج سليم الحص للأخلاقيات الأحيائية والاحتراف» في كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت محاضرة أمس عن أخلاقيات التبرّع بالأعضاء والحصول عليها وزرعها، في فندف جفينور روتانا في بيروت. لكن، كيف ينظر أشخاص وهبوا، هم أنفسهم، أعضاء من أحبّوا، إلى هذا الموضوع؟ ماذا يجيبون عن مشاعرهم لحظة اتخاذ قرار الوهب، قبل أن يلفظ أحباؤهم النفَس الأخير؟ شهادات لعدد من أهالي الواهبين
«عندما أصبحت عينا والدي حلماً». لم تكن الشابة ميرا عنداري تفكّر في يومٍ من الأيام أن تكتب في دفتر مذكراتها حلماً بهذا الثقل. قبل هذه العبارة، كانت أحلام ذلك الدفتر «على قدّ الحال»، لا تتعدى كونها خربشات فتاة عشرينية بدأت تكتشف الحياة، في كنف عينين لم تكن قد فارقتاها بعد. لكن، فجأة انقلب كل شيء. أطبق الوالد جفنيه على العينين السوداوين، غارقاً في غيبوبة طويلة. وكلّما كان يمرّ وقت على ذلك الغياب المفاجئ، كانت لحظات الانتظار تتثاقل، والموت يقترب أكثر، إلا أن ميرا لم تكن تجرؤ على التعوّد على فكرة الفقدان. تلك الفكرة التي كلّما راودتها، استبدلتها بعبارة «فليرجع على كرسيّ مدولب».
لكن، لم يعد الوالد. غرق في غيبوبة أبدية انطفأت معها العينان. بقيت «للموت» ثمانٍ وأربعون ساعة كي يحدث وربما أقل، يقول الطبيب المتابع لحالة الوالد، مضيفاً بصوتٍ خافت «لم يبق إلا بعض النبض». عبارة كافية لتحسّس الفقدان. وأكثر من كافية للبدء بحديث من نوعٍ آخر: مراسم الدفن.
24 ساعة تمرّ. الحزن يتمدّد. لم يبق الكثير ربما. وقبل أن تستوعب العائلة حزنها، تُسأل عن «بقايا» الحياة في جسد الوالد وما إذا كانت مستعدة لوهبها لآخرين؟ لكن، هل الأمر بهذه البساطة؟ بسؤال وورقة توافق فيها العائلة على عملية نزع أعضاء الوالد قبل أن يلفظ آخر أنفاسه؟ ولمن؟ أسئلة كثيرة استحضرتها ميرا في تلك اللحظة. فكيف ستقبل الشابة بأن تنزع من والدها الحياة؟ ماذا لو عادت إليه الروح في آخر لحظة؟
الموقف «صعب»، تقول الصغيرة المتشحة بالسواد وقد وقفت بعد عام من الموت مكرّمة على مسرح بيار أبي خاطر، في اختتام السنة الثانية من التعاون بين الوكالة الإسبانية للتنمية الدولية واللجنة الوطنية لوهب الأعضاء وزرعها.
وحدها، كانت تتفحص وجوه الجالسين أمامها. كانت تبحث عن عينَيْ والدها. هي قالت هذا. سألوها: لمَ؟ فأجابت «بدي شوف كيف بدهن يطلعوا فيّ». وبكت. بعد وفاة والدها، زارت ميرا المستشفى أكثر من مرة. كانت في كل مرة، تطلب معرفة اسم الشخص الذي أخذ عيني والدها. ولما لم تفلح في كشف السر، حضرت إلى التكريم علها تتعرف إليهما في وجهٍ آخر. عبثاً حاولت الشابة، لا أحد نظر إليها «بدفء عيون بيي».
لكن، ماذا لو وجدت ميرا عينا والدها؟ ماذا كانت ستفعل؟ هل كانت ستبكي؟ لا، قالت. وقبل أن تفتح المجال لتكهنات السائلين، أضافت «ببوسهن إذا سمحلي».
ما قد تفعله ميرا لن تجرؤ على فعله منى مغاليان، والدة ألكسي الذي توفي منذ شهرين بعدما سقطت دراجته النارية في «الريغار» المكشوف. كان يقترب من عامه العشرين عندما غرق في غيبوبته. وقبل أن يموت قلبه نهائياً، جاء من يطلب من الوالدة «وهب أعضائه». يومها، لم تتقبل الفكرة، فالبنهاية «أنا أمّ». والأمّ أنانية في مثل هذه الحال، لا تقوى على سماع نبضات قلب ابنها في جسدٍ آخر. لكن، قبل أن تقول الـ«لا»، حدّثها «الخوري» الذي كان حاضراً إلى جانبها في تلك اللحظة عن «ستة أشخاصٍ سيعيشون من خير ألكسي وسيدعون له». اقتنعت الوالدة ووهبت أعضاء ابنها، إلا أنها حتى اليوم لم تتقبل فكرة التعرف على هؤلاء «لأنني لن أتحمل الرؤية، خلّيني مبسوطة أنهم عايشين، بس ما بدي شوفن». يمكن لهذه المرأة أن تعدل عن قرارها «إذا اشتقت لشوف لون عينيه».
قد يستغرق الأمر سنوات كثيرة، فمنى لن تنسى لون عيني ابنها وإن نسيتهما «فلن تتحمل رؤيتهما في وجهٍ آخر»، تقول جورجيت مغاليان. تماماً كما قال يوماً يوسف عطا الله، والد ليليان عطا الله التي قضت في حادث سير أيضاً، وهو الأب التائق إلى النسيان، من دون طاقة. لا يريد «ليليان في مكانٍ آخر، ما بدي إرجع اتذكر وخلي الواحد ينسى لمين راحوا يروحوا». يصعب على الرجل حتى تخيّل المشهد: قلب ابنته ينبض في مكانٍ آخر؟ سأل نفسه مراراً هذا السؤال من دون أن يقتنع بالجواب، علماً بأن ابنته أوصته مراراً بالتبرّع بأعضائها «إذا متّ قبلك يا بابا». يقول والعينان مغرورقتان بالدمع «مشتاق، لكن لا أريد أن أرى مجدداً».
ثمة من اشتاق سريعاً وتتملكه الرغبة في رؤية من استفاد من أعضاء قريبه، ولو «سماع نبضات قلبها»، تقول أميمة الحلبي. السيدة التي فقدت أختها «بساعة الساعة» عندما انفجر رأسها وهي تغسل وجهها صباح أحد الأيام، تشتاق كثيراً للتعرف إلى أحد الموهوبين، لكنها تخاف. لا لأنها لن تتحمل، بل لأنها تخجل من مجرد التفكير «أن يفكروا أني أريد طلب مساعدة منهم، أو حتى حق عيون أختي وقلبها وكلاويها».
تفكير قد يبدو «منطقياً بعض الشيء»، يقول الياس، ابن الواهب حبيب العبسي. ويبرّر الياس ـــــ الذي رفض وأشقاؤه أول الأمر فكرة الوهب، لأن الوالد لم يتوفّ دماغياً وإنما «فات كوما» ـــــ سبب تكتم إدارات المستشفيات عن هوية الموهوبين أن «الأخيرين يخافون من أن نطالبهم بمردود مالي». لكن، هل يقاس الوهب لدى هؤلاء وفق هذا المقياس؟ وهل حصل يوماً أن طالب أهالي الواهبين بالثمن؟ إلى الآن، الجواب لا يزال لا، «بالنهاية هذا وهب، والوهب لا يعني بيع وشراء»، تقول إحدى العاملات في اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية.
وبعيداً عن العلاقة «التي لم تتوطد بعد» بين الواهبين والموهوبين المفترضين، تجدر الإشارة إلى أن عدد واهبي الأعضاء والأنسجة بلغ العام الماضي (2011) تسعة واهبين. وهذا معناه: ستة أعضاء من كل واهب تساوي أربعة وخمسين حياة جديدة ... فيما لو افترضنا أن الأعضاء الستة التي يمكن أخذها من كل واهب كانت سليمة.
راجانا حمية