هي ليست قضيّةٍ جديدة، فبين الحين والآخر تسلّط الأضواء حولها، لكن ما زال الاقبال عليها خجولاً، والسبب يعود الى ما يعكسه الموت من هيبة ناهيك عن غياب الوعي حول مفهومها وأهميتها. هذا ما دفع ممثلي المذاهب الدينية اللبنانيّة الى ملء بطاقة التبرع كقدوةٍ للمجتمع والهدف: دعم وهب الأعضاء.
لأنّ وهب الأعضاء قضية إنسانية بامتياز تتخطى كل الاعتبارات والاختلافات الاجتماعية والمذهبية والسياسية، إجتمع أمس ممثلون عن المذاهب الدينية ليعلنوا رأي الدين حولها، برعاية وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور في لقاء المذاهب الدينية اللبنانية لدعم برنامج وهب وزرع الأعضاء بعد الوفاة الذي نظمته "اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية (NOD-Lb)"، ثم وقعوا على بطاقات التبرع كي يكونوا قدوة في مجال التبرع بالأعضاء.
أمانة
بداية، سلّمت المنسقة العامة للجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية فريدة يونان أمانة للوزير أبو فاعور ترتكز على ضرورة إقناع الحكومة بأنها مسؤولة عن هذا البرنامج ويجب أن تتبناه رسمياً، إصدار القوانين الضرورية لمواكبة البرنامج والمساهمة المالية من الدولة لتأمين إستمرارية وتطور البرنامج الوطني، شرط أن تكون سنوية وثابتة". وشددت على أن "هذا البرنامج يخفف من عبء كبير عن الدولة كما يخفف من معاناة المرضى بالسفر الى خارج لبنان للحصول على علاجهم".
للفنّ دوره
لم تقتصر المحاضرة حول الرأي الدينيّ والسياسيّ، بل تخطّت رقعته نحو عالم الفنّ، إذ إجتمع كلّ من الممثلين شربل زيادة، برناديت حديب وندى بوفرحات الذين ساهموا في اعداد إعلان تلفزيوني عن أهمية وهب الأعضاء. وتعهّدت بو فرحات "الاستمرار في التشجيع على وهب الأعضاء من خلال أعمال فنية واصفة الوهب بالخطوة الجريئة والإيجابية جداً".
وائل أبو فاعور
بعد ذلك ألقى ابو فاعور كلمة قال فيها: "شاءت الأقدار أن أكون في وزارة الصحة وأرى الكم الهائل من معاناة الأشخاص الذين يحتاجون إلى اعضاء، وعندما لا يتوفر حلّ من العائلة يكون الخيار انتظار الموت أو البحث عن واهب مقابل بدل مالي أي تجارة الأعضاء". وشدد على "ضرورة التوعية على ثقافة وهب الأعضاء، خصوصا ان الموقف الديني لا يمنع هذا الأمر لا بل يحفزه"، مضيفا أن "من ناحية الاختبار الشخصي، ليس بسيطا على الإنسان أن يوقع على بطاقة وهب اعضائه، ولكن الأكثر أهمية من ذلك هو أن هذا القرار يجعل من الموت حياة". وشددّ على ضرورة العمل على تنمية الثقافة العامة حيال وهب الأعضاء.
آراء الدين
ثم تحدث صاحب فكرة اللقاء القاضي المستشار الأول للمحكمة الشرعية الدكتور الشيخ يحيى الرافعي مؤكدا أنه "أوصى عائلته وزملاءه بالتبرع بأعضائه عند حلول أجله من أجل إنقاذ انسان من الهلاك أو الإعاقة"، مضيفا أن "الحي خير من الميت".
بعد ذلك، ألقى ممثل العلامة السيد علي فضل الله الشيخ زهير قوصان كلمة ذكّر فيها بفتوى العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله حول وهب الأعضاء، وأبرز ما جاء فيها أنه "يجوز للمريض أن يستعين بأي عضو من أعضاء الكائنات الأخرى من أجل معالجة مرضه. كذلك يجوز له في حياته أن يهب من أعضاء جسده ما يمكنه الإستغناء عنه، إما لوجود شبيه له يكتفى به في وظيفته، كالكلية الواحدة، أو لكونه زائدا في الجسد، كبعض العظام والأوردة، أو لكونه مما يتجدد كبعض السوائل والأنسجة من دون فرق بين ما لو كانت الهبة لمسلم أو لغيره".
بدوره، قال ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ غاندي مكارم: "ان الموقف الشرعي المعتمد في موضوع وهب الأعضاء لدى مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز هو ترك الحرية للمرء وفقا لإرادته ومشيئته واختياره، على أن يكون الواهب بالغا وصحيح العقل وموافقا على الوهب من دون ضغط أو إكراه".
وأشار الى أن "إذا صح طبيا جواز الإستفادة من بعض أعضاء الميت بعد التأكد من موته، فإنه قد يجوز للموحد أن يوصي بشيء من أعضائه لمن يحتاج إليها، وذلك بناء على إطلاق مذهب التوحيد الحرية الكاملة للموصي في وصيته وفقا لشروطها القانونية"، مشددا على "وجود القوانين الصحيحة والمشرّعة للوهب وتطبيقها وعلى استقامة وكفاءة الجهات الطبية، ومنع بيع الأعضاء والمتاجرة بها".
من ناحية أخرى،، قال ممثل نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى قاضي الشرع سعد الله الحرشي: "من الجائز وهب عضو من الأعضاء لإنقاذ نفس أو منع هلاكها أو رفع الضرر البالغ عنها، شرط أن لا يترتب عليه في ذلك تلف نفس الواهب أو إدخالها في هلكة أو تمكين الضرر البالغ منها بما يخالف "ميزان المهم والأهم" بمعناه الشرعي والعقلي".
ولفت الى أن "ترويض النفس على عون الآخر، والتبرع بالأعضاء التي فيها خير الإنسان الآخر، وضمن حدود الراجح الشرعي والعقلي، هو باب من أبواب رضا الله، وطريقة تؤكد معنى التضامن الأخلاقي بين بني الإنسان".
أما ممثل متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس الاب جورج ديماسي فأوضح موقف الكنيسة الأرثوذكسية من وهب الأعضاء، لافتا الى أن "هذا الوهب يمثل شكلا مميزا من الشهادة للمحبة، وتشجع الكنيسة ممارسته لأنه يعالج، لا بل ينقذ حياة كثيرين".
وقال: "المجمع الأنطاكي المقدس إتخذ سنة 1996، قرارا أكد فيه أن وهب الأعضاء لا يتناقض مع إيمان الكنيسة الأرثوذكسية وعقيدتها اللاهوتية، وقد حدد شروطا لكي تعتبر عملية الوهب متوافقة مع الإيمان القويم. ففي حالة مانح حي، لا بد من الحصول على موافقته والتأكد من غياب أي أخطار على صحته. وفي حالة مانح متوف، من الضروري الحصول على موافقة المانح قبل وفاته وموافقة عائلته بعد وفاته. وكذلك، يجب التحقق من الوفاة، وقد حدد القانون اللبناني الشروط الواجب توافرها لإعلان الموت".
أما ممثل مفتي الجمهورية الشيخ بلال الملا فقال: "إن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة في مكة المكرمة أعلن أن "أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية، هو عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه. كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توافرت فيه شروط أبرزها أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررا يخل بحياته العادية، وأن يكون إعطاء العضو طوعا من المتبرع دون إكراه، وأن يكون نجاح عمليتي النزع والزرع أمرا محققا في العادة أو غالبا".
بدوره، شدد ممثل البطريرك الماروني أمين عام اللجنة الأسقفية لرعوية الخدمات الصحية في لبنان الخوري إدغار الهيبي، على "القيمة الأخلاقية لهبة الأعضاء وزرعها، ضمن احترام بعض الشروط التي تتعلق بالواهب وبالأعضاء الموهوبة أو المزروعة". وقال: "لا يجوز أخلاقيا وهب جميع الأعضاء، إذ يستثنى من الزرع الدماغ والغدد التناسلية التي تؤمن هوية الشخص الفردية كما هويته التناسلية. لا يجوز اعتبار العمل الطبي لزرع الأعضاء كأنه عمل كسائر الأعمال الطبية، إذ لا يجوز فصل هذا العمل عن فعل الواهب القرباني والحب الذي يعطي الحياة، فهنا يصبح العامل في قطاع الصحة وسيطا في مبادرة مميزة ألا وهي بذل الإنسان لذاته حتى ولو بعد موته، ليتمكن غيره من الحياة".
شروط الوهب
في المقلب الآخر، تحدثت فريدة يونان في حديثٍ خاصّ لـ"صدى البلد" عن شروط الواهب لافتة الى أنّ "المتبرع الحيّ يجب أن يلامس عمره الـ21 في حال كان من بين الأقارب والـ25 بعيداً عن الأقارب. كما يجب أن يتّسم بصحّة جيّدة تخوّله الخضوع لهذه العملية دون أيّ مضاعفات تؤثر على حياته. أما الواهب المتوفي فقد يتراوح عمره بين 4 و75، شرط ألا يحتضن أمراضاً قد تنقل الى المريض".
10 أشخاص سنويّا
وشددت يونان على أنّ نسبة وهب الأعضاء في لبنان ضئيلة جداً، إذ لا تتخطّى الـ 10 أشخاص سنوياً، أي 2.5 بالمليون، مشيرة الى أنّ نسبة الواهبين الشباب في لبنان أكثر من المتقدمين في السنّ لأنّ معظمهم توفي جراء حوادث سير.
وفيما أكدت يونان أنّ قرار وهب الأعضاء يتخذه بشكلٍ فردي عندما يكون على قيد الحياة، فيوقع على بطاقة تبرع بأعضائه شرط أن يكون أفراد العائلة على علمٍ بالأمر لأنّ القرار النهائيّ لتنفيذ الوصية يعود إليهم بحسب القانون اللبناني.
أما عن أسباب الخوف من "وهب الأعضاء" فيعود الى الفكرة الخاطئة المأخوذة عن رأي الدين في الموضوع، كما هناك تخوّف من الموت رغم أنه حقّ علينا، ناهيك عن غياب ثقافة حوله.
قد تندرج قضية "وهب الأعضاء" في خانة الأعمال الانسانية السامية انما تتطلب شجاعة لامتناهية، فحين تمنح حياة أفضل لمن يستأهلها، يحمل الموت عندها معنى أسمى. فهل تتجرأ؟